Sat,Dec 21 ,2024

رائحة الغواية

نبيل أحمد الخضر

تحميل


 

من ميزاتي أو ربما كانت من عيوبي أنى عندما أصحو من نومي تظل رائحة ما ملتصقة بأنفي تسيطر على كياني وتوجهني كإنسان ألي إلى رجل ما.

 

لا يوجد رجل ما في حياتي أو ربما كان من ممتلكاتي ولكنى لا أستطيع القول أن كل رجل في هذه الحياة هو جزء لا يتجزأ منها. من ممتلكاتي وحياتي.

 

فكل من كانت لجسده رائحة نفاذة تسيطر على أنفى فقد سيطر على كلية وأظل أحارب حتى أسيطر عليه ويصبح جزاء من ممتلكاتي.. هكذا حتى أستنزف رائحته وأرميه كخيار معطوب لا طعم له أو نكهة.

 

رائحة الرجل.. ما أجمل رائحة الرجل.. عندما أصحو من نومي.. أو عندما صحوت اليوم من نومي كانت على أنفى رائحة الجوافة.. ثمرة الجوافة.. لا أذكر متى أكلت أخر مرة منها ولكنها كانت مسيطرة على وسألت نفسي... ترى هل سأجد رجلا برائحة الجوافة؟؟؟

 

كنت أعرف أنى لست حاملا بجنين ولكنى حاملا بشهوة.. برغبة واهتياج وكنت مدركة أنى حتى ولو أكلت كل ثمار الجوافة التي على الأرض ما ارتويت وما شبعت. وحده ذكرا ما في هذه الدنيا الشاسعة هو من سيعطيني ما أرغب به.

 

لهذا تزينت ولهذا خرجت لأبحث في كل شوارع الكون اللامتناهي أبحث عن رجل الليلة.. استنشقت رجالا برائحة الليمون ورجالا برائحة التبغ ولكن رجل الليلة لم يوجد بعد.

 

كنت ما زلت في وسط المدينة عندما أحسست أنى قريبة جدا من رائحة رجل ما يحمل نفس الرائحة الملتصقة بأنفي.. كان في الفتحة الخامسة من الشارع الرئيسي الذي توقفت وسطه تماما ابحث عن مصدر الرائحة.. واتجهت إلى رجل الليلة.. كانت رائحته النفاذة تشتد كلما اقتربت منة مترا بعد مترا وقطعت الكيلو مترين في سرعه عجيبة.. لأني أحسست أن الرجل يبتعد إلى لا مكان.

 

ووجدته كان يخطو في الشارع ولا يبدو من شكله أي ميزات خارجية.. رجل كآلاف الرجل الذين مررت على أجسادهم واستهلكتها ومن ثم بصقتها كلبان علكته حتى استنزفت حامضه وحلوه.

 

أصبحت أجرى لألحق بخطواته الواسعة. حتى أصبحت بجواره وهمست له لاهثة:

 

  • بكم الجوافة؟؟

 

ونظر إلى مدهوشا.. وتجاهلني.

 

 كان يعتقد أنى مجنونة وإن كان قد أعجب بجمالي الفارة وأصررت عليه:

 

  • بكم؟؟
  • أتركينى يا سيدتي الجميلة. أريد أن أذهب إلى عملي!!

 

كانت فرصتي سانحة فأغلب من تحججوا بالمال لهثوا ورائي عندما لوحت لهم به وسألته وأنا ألوح برزمة نقدية:

 

  • هذا أجر أسبوع يا رجل الجوافة؟؟ لعمل ليلة واحدة.
  • ليلة؟؟؟؟؟
  • نعم ليلة؟؟ ففي الليل تطلق أوراقك روائحها وتمارس النتح بجهد كأبهى ما يكون لتكون عند صباحك الباكر مغسولا بعرقك وقطرات نداك!!
  • أهذا غزل؟!!
  • تريد النقود فتعال!!

وجاء.

 

للرزمة تأثير السحر.. كانت هي رفيقتي في كل شارع بحثت فيه عن رائحة ما.. يقال في بعض الأساطير والتي قيل إنها أنتجت كفيلم في الآونة الأخيرة انه كان هناك بائع عطور مشهور.. كان يمزج بين العطور بسلاسة حتى أنه كان يبتكر كل يوم ألاف التركيبات ولكنة لم يجد التركيبة التي كانت ستعطيه الخلود.. التركيبة التي لم يستنشق مثلها أبدا.

 

كانت النساء تبحث عنده عن أجمال الروائح ومن خلالهن أستطاع أن يجد العطر الذي سيظل ابد الدهر رمزا للغواية.

 

عطر الجسد.. هكذا فكرت وأنا أخطو بجانب رجل الجوافة.

 

فكرت أن النساء والرجال يبحثون عن العطر والعطر الحقيقي والجمال الحقيقي يكمن في أجسادهم.. في تفصيلاتها وأماكنها المحمية بأستار الحياء.

 

عندما أكتشف ذلك العطار أن العطر فقط في الجسد بداء يقتل النساء ويستخلص من أجسادهن عطرا حقيقيا.. كل النساء اللواتي مررن عليه كان يتركهن بسلام حتى يجد المرأة التي ستصبح جزاء من تركيبة ذلك العطر الأسطوري الذي سيجعل أرتالا من البشر تعاني الم الرغبة والاحتياج وحلاوة اللقاء بين كائنين يحس أحدهما بالأخر كإحساسه بنفسه.

 

هكذا أنا ربما أصابتني اللعنة.

 

لكنى لا اقتل ذكوري كما قتل العطار نسائه. بل أستخلص منهم روائحهم وأضخها في داخلي.. هنا في جسدي انسابت كل روائح الكون في جداول عذبة.

 

كل ليلة كان يسيل بداخلي جدول جديد.. كل النساء تبحث عن رائحة جميلة في الأسواق وبيوت العطارين ولكنهن ينسين أن العطر الحقيقي هو عطر أجسادهن.

 

كل الرجال يبحثون عن عطر يجعل من روائحهم النفاذة تختفي فتختفي معها رجولتهم. ينسون ويتناسون أن رائحتهم الأجمل تكمن في أجسادهم.

 

والتهمته.. ربما كان يعرف ما أريد منه عندما ذكرت له أن العمل سيكون ليلا فليس غبيا.. كان متعاونا وهو يتجرد من أوراقه ويرفع يديه إلى السماء صامتا ينظر إلى بصمت وأنا التهم ثمراته وأعلك أوراقه وأمتص رائحة العروق النابتة من جذوره الملتصقة بالأرض بحياد.

 

طوال ليلة كاملة ظللت استنشق رائحته. وأكل من ثمراته وأعصر بعضها لتكون خمرا حليبيا كأنه الضوء.

 

- هل أمكث الليلة أيضا؟

 

ونظرت إلية كان عاريا من أوراقه وثماره ورائحته. الرائحة منتشرة في كل الأجواء ما عداه وأشرت له متقززة بالانصراف.

 

كان قد فقد قيمته.. فقد كل شيء بالنسبة لي وأصبحت أراه مرتديا كل ثيابه ما عدا رجولته ورائحته وذهب. كما ألف غيرة ذهب وكما ألف بعده سيذهب.

 

مرت الأيام وأنا ما زلت أستهلك بقية رائحته الملتصقة بالجدران وأدثره السرير.

 

في صباح يوم ما صحوت وعلى أنفى رائحة الشوكولا.. هذا دون سابق إنذار.. كانت رائحة رجل الجوافة قد انتهت من على كل شيء وأصبحت مستعدة لاستهلاك رائحة جديدة.

 

رجل جديد ولكن من هو الرجل الذي سيملك في جسده رائحة الشوكولا.. أين سأجده في هذه المدينة اللعينة التي تخفى روائح أناسها أو تستهلكها وتبعث بدلا منها روائح عوادم السيارات والمصانع.

 

لم أكن أعتقد أن الحظ سيخدمني إلى باب بيتي. كان من يأتي ليستهلك قمامتي.. رجلا أسودا يبدو من إحدى الدول الإفريقية.. يأتي كل أسبوع ليجمع فضلاتي ويأخذها فوق ظهره متجها بها إلى البعيد.. لم أنتبه إليه إلا في تلك اللحظة التي طرق بها بابي وفتحت له لتزكمني رائحته المعبقة بالقمامة. ولكن كان هناك بعضا من رائحة شوكولا تبعث من ركن بعيد من جسده. كان يحتاج إلى التطهير من كل ما علق به لتصبح الرائحة معروفة المصدر والمكان.

 

كان يعتقدنى كريمة وأنا أعطية صابوني المفضل ومناشفي الخاصة.. كان يعتقدنى مجنونة وأنا أدخل عليه وهو يستحم لأدعك من على جسده كل قمامات الأرض ليصبح بعدها لامعا كأنه جوهرة سوداء نادرة.. تنبعث منها رائحة شوكولا جعلتني أناديه بالكوكا.. وأطلق علية لفظ مخدري الخاص.

 

 

- تعال يا نبتة الكوكا.. تعال يا قطعه الشوكولا..

 

لم يدرك ما أريد من إلا بعد أن أنشبت فيه أظافري أفتش عن رائحته التي كانت ما تزال تحتاج إلى التنقيب للوصول إلى مصدرها.

 

ها قد مزقته كما لم أمزق أحدا قبلة.. ها قد أخرجت من داخلة كل ثرواته.. ها قد مزجت بين حليبه وشوكلاه مكونة إصبعا غليظا.. مقرمشا ألذ من " جالكسي ".

 

وها أنا التهمة حتى أصبح لا يملك من أمرة شيء.. وأصبح كأنه ورقة في مهب ريح اقتلعته من جذوره وقذفت به إلى البعيد.. وقد أصبح أيضا كأنه لا شيء. كأنه نكرة.

 

كأنه لم يعد يساوى حتى ثمن قمامته.

 

طردته.. كنت حتى الآن أودع ذكوري بأرستقراطية إلا هذا ودعته كمومس غارقة في لغة الدعارة.

 

انتهى مفعوله سريعا. ربما لم يكن يملك من رائحة شكولاه إلا القليل.. وسيطرت على سريعا الرغبة في رجل جديد. رائحة جديدة.

 

 كنت أمارس حياتي في النوم والاستيقاظ ورائحة الزيتون تسيطر على.. كنت أريد رجلا برائحة الزيتون... لم يأتني هذه المرة أي رجل.. وظللت أنتظر حتى أصبت بملل دفعني إلى الشارع كالمجنونة.. ابحث عن رجل برائحة الزيتون.. ذهبت إلى كل الطرقات.. الأزقة.. فكرت اننى لم أضع خطة للبحث.. فلا داعي لان ابحث في كل رجل التقية عن رائحة الزيتون.. فقد تشممت ككلبه كل روائح الرجال الذين مروا بجانبي ومررت بجانبهم.. ووضعت الخطة.. الزيتون تلك النبتة المباركة الموجودة في فلسطين.. ربما كان الفلسطينيون وحدهم من يملكونها.

 

وذهبت إلى كل الشوارع التي يقطنها اللاجئون الفلسطينيون.. استنشقت أجسادهم.. عتبات بيوتهم.. إطارات سياراتهم.. لكن لا حياة لمن تنادى.. لقد فقد فلسطينيوا الشتات رائحة الزيتون.. رائحة الوطن.

 

كل قهوة يتجمعون بها دخلت إليها.. كانوا ينظرون إلى بدهشة. وكنت لا أهتم بهم.. فقط كنت أشتمهم وأحاول أن أجد رجلا برائحة الزيتون.

 

كل ما سبق.. كان عبث.. كل ما سبق كان قبض ريح.. كل الرجال الفلسطينيين من حولي أصبحوا بدون رائحة... وبدأت اصرخ في داخلي.

 

 أين أنت يا رجل الزيتون؟

 

سأدفع فيك كل ما املك إذا كنت ما زلت...رائحة وطنك تملك.. رائحة شجرتك تحتوي.

 

كانت الأسئلة هي من تتوارد إلى خاطري كأنها بث عالم للجنون والرغبة والاهتياج.

 

وكنت أملك كل شيء.. إلا ما أردته حقا.. نظرت إلى حقيبتي المتخمة بآلاف النقود.. ولم أجد بداخلها ما يرويني.. كنت ابحث طوال اليوم ولا أجد ألا العدم.

 

وحلمت ذات يوم بجرافة إسرائيلية تجتث شجرة زيتون.. وحلمت أن رجلا يمسك بتلك الشجرة التي أصبحت جثة على الأرض ويحملها كطفلة بين ذراعيه رغم أنها تزن أضعاف وزنة ليغرسها من جديد ولتضخ في جسده الشجرة كل ما تحتويه من زيت ويكاد زيتها على جسده يضئ حتى ولو لم تمسسه نار قبل أن يختفي.

 

وصحوت من حينها أنتظر الفجر وعند الفجر ذهبت مسرعة إلى الشوارع ابحث عن شيء فكرت فيه منذ استيقظت.. ونظرت إلى حقيبتي المترعة بالنقود ودلفت إلى المكتب الذي استقبلتني فيه شابة شبه حسناء ورميت أمامها النقود وأنا ألهث متضرعة:

 

- تذكرة واحدة إلى فلسطين.. ذهاب فقط.