Wed,Apr 24 ,2024

تناسل

نبيل أحمد الخضر

تحميل


 

ذاك الرجل الذي لم يأت الزمان بمثله، حنونا كأنه ورق ورد تضوع رائحته عبر الأفق، كريما كأنه سحابة تعصر نفسها حتى أخر قطرة لتروى أرضا عطشى شققتها الأيام لكأنها تجاعيد عجوز طاعنة في السن حتى أرذله.

 

لم يكن ظني وأنا أعطيه ما أعطيت أنه سيغدر بي، وهل غدر بي فعلا؟! هكذا جاء محركا رواكد ظلت أبد الدهر ساكنة، هكذا رحل خالقاً زوابع تحيط بي وتبعثرني وتلملمني لتعيد بعثرتي من جديد.

 

اختفى!! نعم اختفى وعاد لجسدي تشققاته ولكن التشقق ليس سببه البوار ولكن نبتة ما تنمو مكونة ألف خوف.

 

أبى ذاك الذي أعطاني العمر كله كان يرقب من البعيد، هل كان يعرف؟! أم أنه فقط إستغرب التغيرات التي تحيط بي.

 

لا أم لي، يقال إنها ماتت لحظة ولادتي وأن ذاك الأب هو من أعطاني الحياة، ما باله يشاهد تكوراتي دون أن ينبس بشيء هل يفهم ما تعنيه تغيراتي أم أنه فقد جميع ما يعرفه عن الأنثى منذ زمن ماض أهداه لي.

 

ياللإرهاق الذي يحيط بي، أحس كأني سأنفجر وأحس والدي أيضا سينفجر وأحس العالم كله سيتحطم في هذه الليلة المظلمة التي نفت نجومها إلى مجرات نائية.

 

جاء أبى إلى وكان أول يوم نتبادل فيه الحديث وسمعته كأنه يقول:

  • هيا معي!
  • إني أكاد أموت يا أبى؟
  • ستموتين؟ فهذه الليلة لا نجم فيها يرعى الحياة لمثلك!!

 

وبدون أي إحساس برفض أحاط بي بذراعه، نمشي سوية في شوارع فارغة كمشاعري والطريق تبتعد بنا ونحن نبتعد عن البشر وعن جملة الأحياء ونقترب سوية من المقبرة القاطنة خارج مدينتنا الشوهاء.

 

لم أستطع أن أقول شيئا ولم يستطع هو كذلك، هل كنت خائفة؟ هل كان غاضبا؟ هل كنت نادمة؟ هل كان صارما؟ لا أحد يدري لا أنا ولا هو.

 

وهناك في أقصى حدود المقبرة إنتصب شاهد بدون عنوان لشخصية دفنت ربما بدون شهادة وفاة، لا إسم لها.

 

إتجه ناحية القبر ينبشه، قطرات دموعه تكاثرت وإختلطت بالتراب مكونة عجينة طينية بداء يكورها ويلصقها بجانبه.

 

والألم يزداد ولكن من كان أكثر ألما من الأخر أنا أم هو واستلقيت على التراب أنتظر حكم إعدامي وأنا أنظر للسماء.

 

  • يا سماء هل غفرت لي؟ أظن أنه يكفي عقاب مقترف الخطيئة بهجران المحب كم تعذبت عندما مرت ليال لم أجده فيها، ألا يكفي هذا العذاب أظنه يكفى وأظن أنى قد وفيت حسابي منذ القدم.

 

وإذ انتبهت فإذا بأبي يطرق شاهد القبر ويبكي وإنفتح باب القبر لتخرج منة أنثى جميلة تنسج الإغواء كما تنسج الدود الحرير وفى وسط غابات الآلام سمعتها كأنها تقول:

 

  • جئت بها؟
  • نعم وإني نادم؟؟

 

وسارت باتجاهي ترفل في كفنها واحتضنتني بشغف ما بعدة شغف وتمتمت بتعاويذ سفلية:

 

  • وريثة الخطيئة، مورثة الخطيئة.

 

وصرخ بها أبى:

 

  • اتركيها لي فأنا لا أعيش بدونها؟
  • كنت تقول لي ذلك وتركتني؟
  • إنها إبنتك!!
  • إذا فلتات معي!

 

وتفجر الماء من أحشائي وصرخت طالبة نجدة أي كائن من الأحياء أو الأموات ولا أحد وأحسست برأسي يتصدع وكأنني نظرت إلى والدي يمسح ألآمي من على وجه القبور وكأني أحسست والدتي تذبحني وهم تتمتم تعاويذها:

 

  • يا إبنة الخطيئة، يا والدة الخطيئة.

 

والطفل يجاهد للخروج وكأنه في سباق، فأر يريد أن ينجو بنفسه بعد أن تهدم كل شيء ورايتها طفله كأنها حورية تكونت من تناسل ملائكة وقطع والدي ما كان يصلني بابنتي وأحتضنها واحتضنني وصرخ في وجه الجميلة:

 

  • اتركيهما لي؟
  • يا لك من طماع!!
  • إنها إبنتى!
  • وإبنتى.
  • قد سامحتها إن كان هناك ما أسامحها عليه.
  • فلماذا لم يسامحني أحد دفنت هنا حية أُراكم في قبري أحقاد العالم.

 

ولف والدي ابنتي في معطفه والطفلة الزاعقة ما أن أحست بالدفء في الحضن الذي كان لي حتى نامت بهدوء كأنها سعيدة لأنها احتلت مكاني.

 

 

شريرة منذ الولادة!!

 

ذهب أبى وصرخت به:

 

  • يا أبى.. يا أبى

 

لم يجب وأحسست روحي تخرج من صدري كأنها سيخ من نار وصرخت به:

 

  • ابنتي.. يا أبى.. يا أبى.

 

ووالدتي تسحبني إلى قبرها وهي ما تزال تهمس بتعاويذها:

 

  • شريك خطيئة الماضي، والد خطيئة الحاضر، جد خطيئة المستقبل فليحصد أخطائه أبد الدهر وأبى يبتعد وهو محدودب الظهر يحنو على ابنتي ويحميها من ذلك البرد الذي يلفني ويبتعد ويبتعد ودخلت بي والدتي إلى قبرها.

 

وأغلقت باب الحياة.