Fri,Mar 29 ,2024

حديقة الإستياء

نبيل أحمد الخضر

تحميل


كان مستاء بسبب الحرب، لكن سعادته بدأت تنمو وسط حديقة الاستياء التي استهلكت حياته كثيرا في الايام الاخيرة.

 

من طبيعته الانسانية الهرب من الناس مستعيذا بكهفه المزين بصفوف طويلة من كتب تشكل:

 

 روايات.

 قصص.

 كتب فلسفة.

 دواوين شعرية، مسرحيات.

 قصص قديمة للأطفال، نشأ عليها زمنا طويلا.

 

شاشه “لابتوب " يشاهد فيها أغان لمطرباته ومطربيه وافلام قصيرة وطويلة. يدردش من خلالها مع صديقاته. ويتسامر من خلال حروفها مع أصدقائه.

 

كان كائنا كهربائيا، يعتقد نفسه لا يستطيع العيش إلا في النور، تحفه رائحة الضوء، تتغلغل في جسده حرارة المدفأة الكهربائية، يغلف نفسه بورق سيلوفان ناعم وشفاف يستطيع من خلاله العالم مشاهدته ولكنه " أي العالم " لا يستطيع الاقتراب منه أو لمسه.

 

مع أولى بوادر القصف، أشكال الرد الأرضي، تطير من الأصوات المزعجة.

 

 

طوال عمره عاش الهدوء، حتى تغريد العصافير على الشجرة في حوش منزله كانت تزعجه.

 

تفنن في عيش الهدوء كما يجب.

 

بعد انقطاعات مستمرة في بداية القصف جاءت فترة الاطفاء الكامل. أصبح معزولا عن العالم الذي خلقه بيديه، لم يكن يدرك حتى اللحظة أنه يمكن الحديث مع الصديقات دون حجاب وأنه يمكن التسامر مع الاصدقاء وجها لوجه.

 

 في كهفه الامن بدأ يكتشف من خلال النوافذ أن هناك ضوءً شمس دافئ يغنيه عن إضاءة النيون الباردة وأن هناك هواء منعش يغنيه عن هواء مصطنع يضخه المكيف.

 

 أن هناك بشر حقيقيين من لحم ودم موجودين بالمئات من حوله وليسوا قوائم اسماء وصور على الشاشة.

 

مطبخه الحديث بدأ يدرك أن لا طعم للمعلبات المحفوظة في أدراج ثلاجته لعمر طويل وصلت الى أرذله.

 

العابه الالكترونية اختفت ... كوتشينه الكمبيوتر، الداما، السولتير، الخلية الحرة، وحتى كانسه الالغام لم يعد لها وجود في حياته.

 

وهل كان لحياته معنى بعيدا عن الشاشة؟

 

كانت فرصة ليعيد علاقته بنفسه.

كانت فرصة ليعيد علاقته بالعالم.

 

 

 

خرج مع الناس الذي توافدوا الى الشوارع. مندهشين من أن الشارع يحتوي كثيرا من البشر ... كانوا يعتدونهم:

 

 أرقام على الهاتف.

 صور على الواتساب.

 حسابات على الشبكات الاجتماعية.

أعادوا اكتشاف العاب اندثرت. اخترعوا العاب جديدة.

تذكروا حكايات نسيت. حبكوا حكايات جديدة.

أعادوا توصيل علاقات تفككت. كونوا علاقات جديدة.

 

أصبح الصبح مكانا للزحام على الخبز، تتطاير منه شذرات أحاديث لا تنتهي.

ظهر الظهر كأنه موعدا للجمع ليصبح لبضع لقيمات من خبز غير ناضج و"سلته" فقيرة اللحم طعما كأنه من وسلوى.

أمسى المساء مساء الضحك واللعب على ضوء كشاف صيني باهت يعمل بالبطاريات، تسمع دائما انتقاد لذيذ يثير الضحك فيما بينهم وتسمع أحيانا صفعات على مؤخرة رأس أحدهم تمت هزيمته في لعبة جديدة.

 

اليوم وليلته. وأيام وليال متتالية، أسابيع، تراصفوا بالآلاف خلف بعضهم البعض في انتظار قنينة غاز صعبة المنال، شحيحة الحضور، نادرة الظهور، قضوها في الصبر والتراحم والتعاطف.

 

تزخرفهم الشمس، تصقلهم القمر، ترش عليهم النجوم بعضا من بريقها.

 

 

 

 

 

موسما للثرثرة.

صرف الوقت في العبث.

موسما للإشاعات.

السباب اللذيذ.

موسما للجمال.

 

تذكر طفولته هناك في الشارع.

 

فبدلا عن العاب الفيديو. أفلام الفيديو ... مسلسلات الفيديو. اغان الفيديو ... علاقات الفيديو التي أدمنها كان هناك الشارع فسيحا، أمنا، ضحوكا، ممتلئ بالأطفال والجمال والحب وحتى النزاعات البريئة.

 

خرج الى الشارع، أعاد اكتشاف ماضية.

 

لعب “الغميضة ".

كهرباء.

حبس. امان.

أعاد اكتشاف قيمة أغلفة اللبان.

والاثمان المرتفعة لقيمة أغطية الكوكا كولا ...

 

تمنى لو أن رمضان يأتي ليجمع “الزمب" من الارصفة.

وتذكر قرصات والده في أذنه عندما كان يقطع أزرار ثيابه ليلعب بها مع أصدقائه.

اكتشف أن للكوتشينة تنوع لا حصر له من الالعاب.

وانه محترف في إقفال الطريق على منافسة في لعبة الدومنة.

أصبعيه. السبابة والوسطى، اتحدتا من جديد ليكن قادرات على دفع " السريجل" ليدور دورة كاملة على مسطح " الكيرم ".

 

واندهش أنه يضحك كثيرا عند الفوز بالرغم أنه احترف طويلا الابتسامة المصطنعة.

لم يعرف نفسه وهو يحضن صديقا تساعدا معا لربح لعبة " اثنين في كيس " فقد كان لما قبل أيام يمقت حتى تلامس اليدين عند المصافحة.

 

دومنه.

كيرم.

طنج.

غُرق ....

وقل...

 

دار حول أصدقائه المكونين دائرة وهو يغنى أغاني طفولته وهم يغنون ككورال خلفه:

هو: الكوفية الخضراء

هم: ما فيها؟!

هو: فيها زبيب أخضر!!

هم: هاتيها.

 

شاهد أيضا بضع فتيات يمارسن حركات الأيدي وتشكيل الحان من طرقعه الاكف الصغيرة بعضها ببعض بشكل متناسق. تلك اللعبة التي كان يشاهد قبل ربع قرن شقيقاته يلعبنها مع تغيير الكلمات، تذكرهن وهن يمارسن نفس الطقس ويصرحن مع لحن تلامس اكفهن بحبهن للحياة والعالم:

أي لوف ديكو ... أي لوف ديكو

أي لوف ديكو. ديكو ...

أي لوف ديكو.

 

 

وهكذا دواليك الى ما لا نهاية ... أي لوف أوسكار. أي لوف أندريه، أي لوف بيبيرو، أي لاف ماما، أي لوف بابا، أي لوف عدنان، أي لوف لينا.

كن يحببن الكون.

كانت الصغيرات الان يغنين أغان أخرى:

حج بطاط وحج أمين.

استلمنا فلسطين.

فلسطين بلادنا. اليهود كلابنا. دقوا على أبوابنا. زى الشحاتين !!

 

لم تعد الصغيرات يحببن الكون الان ... فقد أصبح لديهن بعض بغض لأشياء ... كم من كراهية لمواضيع. خوف من أشخاص كثر.

 

بدأ يكون ثروة من " زرقيف ““زمب " "حُقق " "أربال " " أغلفة لبان " ليجد لها مكانا عزيزا بجوار كتبة وأجهزته.

 

صباح اليوم كان يمشى في الشارع. شاهد فتيات يلعبن على أنغام القصف الصاروخي الصباحي واستعار الصخرة الصغيرة من الكف الاصغر لاحد الطفلات اللواتي يلعبن " الوقل “ورماها باتجاه إحدى الغرف العشر المرسومة على الاسفلت لتصل الى الغرفة السابعة وبدأ بالقفز على رجل واحدة وهو يمسك شنطته المليئة بالكتب وجهاز اللابتوب وينجح في اجتياز الغرف العشر بأمان ويضحك وهو يسعل السجائر من حلقه بعد هذا المجهود، ويحدق في الطفلة:

  • كيف أنا؟

وبكل سعادة الدنيا وفهم لفلسفة الحياة وبكل رغبة بالعيش قفزت الطفلة لتتعلق بحزام عسيبه المزخرف بفرح.

  • حالي قوى. قوى ... كمل العب معانا يا أستاذ نبيييييل !!!!!